أهلًا بكم في التغريبة 2 | شهادة

طفل نازح في قطاع غزّة من أثر الحرب الإسرائيليّة، دير البلح، 23/12/2023 | Getty.

 

يخدشني الانتظار في كلّ مرّة، يخدشني الانتظار أكثر وقت الحروب. كلّ الناس يترجمون الخطوط في وجهي أو شبكة العنكبوت الّتي على جبيني على أنّها علامات تمدّد للجسد، لكن لم يلتفت منهم أحد إلى أنّها نتجت عن محاولات متكرّرة لانتظارات مكثّفة وكثيرة منها ما نجح ومنها ما فشل. أبلغ من العمر 25 عامًا، وأتعبني الانتظار في ثلاث حروب عشتها في غزّة وفي تصعيديْن كنت خارجها، والآن لا أدري أهي حرب، أم إبادة، أم نكبة، أم نكسة؟ أم جهنّم، يا غزّة؟

كنت أرى أنّ الانتظار لا يعبث في جسدي فحسب، بل في جسد النخيل أيضًا. يترك الانتظار في جذع النخلة علامات عدّة، ومن بينها تلك الأعقاب الخشبيّة الّتي تزداد خشونة وصلابة مع مرور الوقت. كلّما رأيت نخلة ممتدّة اشتهيت لو أنّها تحدّثني عن الوقت وعن الانتظار مليًّا في زمن مستمرّ، وأعود أنا لأفكّر كيف كان الانتظار على نخيل محافظة دير البلح بعد أكثر من ثلاثة وسبعين يومًا؟ وهل بقي فيك نخيل يا غزّة؟

في الحقيقة تسقط الخفّة من الجسد عند الانتظار؛ فمَنْ ينتظر يكون مثقلًا بالذاكرة وممتلئًا بالماضي ومشغولًا بالحاضر. يقول محمود درويش:

خفيفة روحي

وجسمي مثقل بالذكريات

وبالمكان ... وببقايا عينيك

 

روحي ليست خفيفة أبدًا، لكنّ جسمي مثقل بالذكريات مثلك يا محمود، وهذا الثقل يعوق ولو قليلًا من حركتي في أيّ مكان أكون فيه. مضطرّة إلى أن أسير في بلاد بعيدة عن بلادي، وفي يدي اليمنى قلبي وفي اليسرى عقلي.

أمشي وأنا أفكّر في القنّاصة الّتي تمركزت على سطح البيت، هل ذاع في الأخبار اليوم أنّها قنصت امرأة وطفلتها؟ أنتظر ثمّ أعود ليحاصرني الانتظار، وأسأل: هل نجح أهلي اليوم في شراء كيس من الطحين يفوق سعره شراء خاتم من الذهب؟ أقف قليلًا لأنّ يدي اليسرى باتت تؤلمني من كمّ هذه الأفكار الّتي ما زالت عالقة في عقلي. أواصل المشي وأواصل التساؤل: كيف اعتاد العالم أن يرى صور أشلائنا ودمائنا؟ وعلى أيّ فاجعة سيثور معلنًا ضرورة انتهاء هذه الحرب؟ والأهمّ: ماذا ينتظر هذا العالم؟

مضطرّة إلى أن أسير في بلاد بعيدة عن بلادي، وفي يدي اليمنى قلبي وفي اليسرى عقلي. أمشي وأنا أفكّر في القنّاصة الّتي تمركزت على سطح البيت، هل ذاع في الأخبار اليوم أنّها قنصت امرأة وطفلتها؟

 

أنتظر من جديد، لكن هذه المرّة وأنا أدعو أن ينجح هاتف أمّي في التقاط الشبكة لكي أسمع صوتها. أنتظر وأنا لا أستطيع أن أنكر أنّ الانتظار وقت الحرب في وطني غريب، غريب إلى الحدّ الّذي يجعلني أتنبّأ بأنّ شكل انتظار انتهاء هذه الحرب يتشابه آخر يوم فيها مع أوّل يوم فيها. كلّ الناس في غزّة ينتظرون أن يتوقّف هذا العبث بدمائنا، حتّى الّذين قُتِلوا كانوا ينتظرون أيضًا! الدم الّذي سقط على دمية طفلة قصفها الاحتلال بعد أن استطاع أن يُخرج لها والدها تلك الدمية من بيتها المقصوف أوّل مرّة، كانت تنتظر أن تتوقّف الحرب لكي تلعب. ذلك الدم الّذي سرق رائحة الأمّهات المعجونة بالخبز في خيام النازحين، كانوا يتمنّون لو ينتهي هذا الشتاء وتتوقّف الطائرات الحربيّة عن القصف فيذهبون خارجًا، لا أدري إلى أين، لكنّهم يتمنّون حياة آمنة بعيدة عن هذه الخيام الّتي لا تقي من برد الشتاء، ولا من شظايا الصواريخ؛ مكانًا آمنًا فقط.

هل توقّفت عن الانتظار؟ لا، لم أفعل، أنتظر وأفكّر في جدّتي الّتي كانت تخشى الحرب والانتظار والليل، ولا سيّما ليل الشتاء، قائلة لي: "الليل منبع الويل يا تيتا"؛ فكيف، يا ترى، حالها مع هذه الوحوش الضخمة، إذ اجتمعت معًا على قلبها الضعيف؟ يصعب عليّ أن أقول لك، يا جدّتي، إنّ الليل في اليوم الأوّل الّذي يأكل وجوه أهل المدينة يشبه الليل الّذي سيكون ما قبل يوم تنفيذ وقف هذه الحرب. سيبقى انتظار ذلك اليوم كما دائمًا طويلًا، شاقًّا، قاسيًا، وباردًا أيضًا على جسدك المتعَب، وعلى أطفال صغار لمّا تعلم بعد أنّها وحدها الناجية في هذه المجزرة. قلب المحبّ، يا جدّتي، الّذي يصلّي من أجل حبيبه، وينتظر أن تنتهي هذه الإبادة، لا يكاد يختلف عن قلبك أنت أو قلوب الأمّهات أو الإخوة أو الأصدقاء أو الأقارب. في الحرب، كلّ القلوب تصلّي وتدعو ألّا يُصاب محبّوها أو بيوتها أو مصادر رزقها بأيّ سوء، كلّ القلوب في غزّة تنتظر، يا جدّتي، أو تموت!

مَنْ سيقنع جدّتي أنّ عنب اليوم أطيب وأشهى من عنب بلادنا الّتي حُرِمَتْ منها في صغرها، وطيلة سبعة عقود! ذلك الكَرْم الأخضر الّذي حرقه الاحتلال الإسرائيليّ مُحال أن ترى مثيله، ولو قدّمنا لها أجود العنب في هذا العالم! ستظلّ تذكر حلاوة عنقود العنب في أرضها، الّتي لم تستطع أن تذوقه في صغرها كلّما أكلت حبّة عنب في ما بعد. وهل يعقد الانتظار صفقة معها كي ينسيها نكبة وقعت وما زالت تلقي بويلاتها علينا صباح مساء؟ أعلم جيّدًا كيف ينفطر وينكسر الإنسان - مهما بدا لنا قويًّا صلبًا - من الأشياء الّتي لم يمتلكها في طفولته وليس في كبره. بعض الجروح في طفولتنا لا تُشْفى، وبعض علّات الحاضر يكون له جذور من الماضي.

 

ماجد محمّد لولو، مدير دائر المكتبات في قطاع غزّة

 

ذلك الطفل الّذي حُرِم من والدته في حرب 2008، ولم يستطع حتّى أن يكبر معها، أصبح الآن شابًّا ينتظر أن يلتقي نصفه الآخر، وما إن جمع قلبه بمَنْ يحبّ حتّى غدر به جيش الاحتلال الإسرائيليّ بقذيفة فتّاكة. قتلوا الأمّ وقتلوا الحبيبة، ولا شكّ في أنّهم أعدموا قلبه أيضًا. كان في أوّل مرّة ينظر إلى ما افتقده من حنان الأمّ، ينظر إلى تلك الطفولة الهشّة ذات الصور الرقيقة الّتي يحاول أن يسترجعها دائمًا حتّى لا يفقدها، متسائلًا كلّ يوم: هل يستطيع الانتظار أن يعوّضني عمّا فقدت؟ الآن، ماذا ينتظر بعد أن فقد ما فقد؟ هل بقي في القلب ما يمكن الانتظار أن يشفيه؟ لكنّه ما زال ينتظر.

من نافذتي يطلّ بحر الخليج يسارًا، أنتظر وأقول: كان البحر أكثر أمانًا على النبيّ موسى وأتباعه من اليابسة. أمّا بحر غزّة فتصطفّ البوارج الحربيّة المثقلة بالأسلحة وبالقنابل فيه طابورًا ضخمًا؛ لنشر الموت على أهل المدينة. البحر والهواء والبيوت والشوارع كلّها تغيّرت في غزّة. إيقاع الحرب والقصف قد تغلّب على إيقاع بحرها الهائج هذه المرّة، وأحدث تغييرًا فيها. كيف لا وأنّ صوت الهواء الناجي من ركام البيوت يختلف عن صوته في صباحات بلادي قبل الحرب. كان لنا بيت في منطقة «تلّ الهوا»، هذه المنطقة الّتي يجاورها البحر ويدلّلها الهواء الرطب العليل، الآن، أمرّ على صور هذه المنطقة، ولا أعرف أبيتنا في الشارع هذا أم لا، أتراه ينتظر أن يبقى صامدًا؟

حتّى سرب الطيور الّذي اعتدنا أن نراه مشهدًا طبيعيًّا قد تغيّر في الحرب. لا تجيء هذه الطيور للبحث عن فتات الخبز، بل تنظر لآخر مرّة إلى عشّها الّذي قُصِف بثلاثة صواريخ من طائرات الاحتلال. تنظر وتنتظر أيضًا. تأتي هذه الطيور لتواسي صاحب البيت، وتأتي لتقول له: كان لي عشّ على شجرة في بيتك، ويعزّ على قلبي هذا البيت كما يعزّ على قلبك، فدعني هنا أنتظر معك فوق كومة من الحجارة، لا شيء سوى الانتظار على تلّة من الركام.

الأيادي الّتي كانت ترفع علم فلسطين في طابور المدرسة أصبحت ترفع أشلاء محبّيها. هذه الأيادي الصغيرة أصبحت تابوتًا، تحمل أجساد مَنْ رحلوا وتخبّئهم من غدر الطائرات، وتنتظر أن تنتهي هذه الحرب كي يستطيعوا البكاء؛ إذ تتجمّد العين عن ذرف الدموع؛ فلا وقت للبكاء في الحرب، الوقت للانتظار، الوقت للموت أو لنرى مَنْ نجا فينا فمات.

الآن، لا يخدشني الانتظار بل يخنقني، ويستدير حول عنقي عقرب الساعة الكبير، بينما يلتفّ الآخر الصغير مع الشريان الأبهر؛ ليؤكّد له أنّه كلّما ضخّ هذا القلب الدم في جسدي مضت ثانية أخرى من زمن الانتظار هذا.

أنتظر من جديد لأنّني لم أستطع أن أتحدّث مع أمّي، فأتّصل بوالدي، والدي الّذي يحبّ أن يناديه الجميع ’مجد الغزّاويّ‘، الّذي اعتاد أن ينعش مكتبات قطاع غزّة ومدارسها بفعاليّات القراءة، وبمسابقات تكتسي بحبّ الوطن، ويدوّن على حسابه الخاصّ في منصّات التواصل الاجتماعيّ بعد كلّ جولة له في مدارس قطاع غزّة. يصوّر بهاتفه إلقاء الطلّاب قصائد ثوريّة، أو يلتقط بعض الصور معهم. أمّا في الحرب فقد أتعبه الانتظار كثيرًا.

أرى أنّ تداعيات هذا الانتظار جعلتْ والدي يغيّر إيقاعه في المكان الّذي نزح إليه، أراه يكتب بالفحم الّذي من المفترض أن يستخدمه لطهي الطعام، وعلى حائط يؤويه "أهلًا بكم في التغريبة 2"، و"صالون أبو تيم للحلاقة"، وأراه يصوغ مجموعة من بروتوكولات الحياة في المخيّم، ويمارس في هذا المكان فضاء جديدًا عليه، ويحاول - ولو بأقلّ القليل - أن يعيش الحياة! أراه، الآن، يعيش هذه الحياة غير العاديّة، ويعيد تشكيل إيقاعها بما يتناسب وطبيعة المكان وكلّ ما يجول في نظره صورًا من الماضي؛ إذ تتدلّى ذكريات ما قبل الحرب في انتظاره هذا، ويحاول بهذه الممارسات أن يتحرّر من سلطة هذه الحرب، ومن سلطة الانتظار؛ فلم تَعُدْ الحياة العاديّة متاحة لوالدي، ولم يَعُدْ له سوى انتظار انتهاء هذه الحرب، والرجوع إلى عمله الّذي يحبّ.

وبعد كلّ هذا، ماذا عن انتظار رسالة تُنْعى فيها عائلاتنا، أو يُذاع فيها خبر دمار بيوتنا؟ أنا هنا على الأعراف، لا أستطيع أن أكون في الجنّة؛ فالحرب لمّا تنتهِ بعد، ولست في النار إذ ما زالت عائلتي على قيد الحياة. الانتظار هنا أسوأ كثيرًا من كلا الاحتمالين؛ إذ لا شيء مؤكّد هنا! إن كان يجب على طائرات الاحتلال أن تهدم بيتًا مكوّنًا من ثلاثة طوابق، في أعلاه بيت للطيور ومساحة خضراء يحصد فيها والدي ثمار الليمون، ويقطف منها الفلفل الأخضر ذا القرن الملتوي، وأوراق الحبق الأخضر. لماذا عليّ أن أنتظر كلّ هذا وأعيش ذلك؟ وإن كان على أحد أن يستشهد من عائلتي أو كلّ عائلتي بفعل قنّاص متعطّش للدماء؛ فلماذا عليّ أن أنتظر كلّ هذا وأعيش ذلك؟ وهل من شيء أقسى على قلب الإنسان من أن يُمْتَحَن بالفقد قبل وقوع الفقد وبعده؟ أيروّضني الانتظار على تحمّل سماع الفاجعة الكبرى، أم يجعلني أعيش على أمل كاذب ستأفل شمسه قريبًا؟

 

ماجد محمّد لولو خلال نزوحه

 

الآن، لا يخدشني الانتظار بل يخنقني، ويستدير حول عنقي عقرب الساعة الكبير، بينما يلتفّ الآخر الصغير مع الشريان الأبهر؛ ليؤكّد له أنّه كلّما ضخّ هذا القلب الدم في جسدي مضت ثانية أخرى من زمن الانتظار هذا.

وحدي أنا أنتظر وأنتظر وأنتظر في بلاد بعيدة عن بلادي. لا شيء يسعفني هنا سوى أغنية فيروز:

أحترف الحزن والانتظار

أرتقب الآتي ولا يأتي...

 

فمتى سينتهي هذا الانتظار؟ متى؟

 


 

فاطمة لولو

 

 

 

كاتبة ومترجمة من قطاع غزّة. درست ماجستير الأدب المقارن من معهد الدوحة للدراسات العليا.